طرق التّدريس و البحوث
في الحوزات الشيعيّة
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الّذين يبلّغون رسالات الله و يخشونه ولا يخشون أحداً
إلاّ الله و كفى بالله حسيباً
صدق الله العلي العظيم
( الأحزاب : 39 )
الإهــــــــــــــداء
أهدي هذه البضاعة المزجاة إلى سيّد أساتذتنا وزعيم الحوزات
العلميّة بلا منازع ــ أستاذ الأصول الأول ــ سماحة أية العظمى
الإمام السيّد أبوالقاسم الموسوي الخوئي ( قدّس الله نفسه الزكيّة ) ،
عرفاناً لخدماته الجليلة للحوزات الشيعيّة .
محمد جواد المهدوي
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله ربّ العالمين ، والصّلاة والسّلام على أشرف خلقه محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين ، و أصحابه المنتجبين .
المقدمة :
قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز : ( وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدّين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلّهم يحذرون ) ، التوبة : 122 .
إنّ هذا البحث يدور حول طرق التدريس و البحوث في الحوزات العلميّة الشيعيّة ، حيث قسمته إلى مبحثين و خاتمة ، و قد تطرقت في المبحث الأول إلى المناهج الدراسيّة بإيجاز نظراً لتوقف معرفة طرق التدريس عليها .
والمبحث الثاني ــ وهو موضوع البحث ــ في منهجيّة التدريس في الحوزات العلميّة في مرحلة المقدمات و السطوح و البحث الخارج و قد جعلته في ثلاثة محاور:
المحور الأول ، في النشاط الفقهي .
المحور الثاني ، في النشاط الأصولي .
المحور الثالث ، في النشاط العقائدي و الفلسفي و غيرهما .
و الخاتمة ، في الإشارة إلى بعض الإيجابيات و السلبيّات للدراسة الحوزويّة الحرّة مقارنةً للدراسات الحديثة . .
ولأجل أهميّة الموضوع و كونه أوّل بحث علمي أكتبه في حياتي و لضيق الوقت و كثرة إشتغالاتي قد لاقيت بعض الصعوبات خصوصاً في مجال المصادر ، و قد اعتمدت بعض الشيْ على ( موسوعة النجف الأشرف للدجيلي ) و غيرها أملاً أن يتلقى بالقبول .
طرق التدريس و البحوث في الحوزات العلمية
تمهيد :
لاشك أن الحوزة العلميّة تعتبر من حيث الأهمية والقدسيّة والنتائج المترتبة عليها ــ المؤسّسة الأولى بعد الإمامة والولاية من حيث الرعاية والإهتمام بحفظ الشريعة الحقّة من الضياع أو الإنحراف ، وتوجيه النّاس إلى الوظائف الشرعيّة والعقائدية ، وبيان السلوك الفردي والإجتماعي الأمثل ليحافظ على إعتدال الشريعة المقدّسة والمتشرّعين من ظاهرة التطرّف ، أو الإنحراف عن جادة الصّواب .
ولعلّ أصل فكرة الحوزة وتاريخها مرتبط بهذه الآية الشريفة المتقدمة ــ حيث تدل على لزوم بناء قاعدة ثقافية وفكرية قويّة تتحمّل حفظ وضبط الرّسالة الإسلامية ، ومن ثم نشرها لمختلف أنحاء العالم .
وتشير الآية الكريمة ، فيما يرتبط بموضوع بحثنا إلى وجوب التفقّه والتعلّم من أجل معرفة الأحكام الإعتقادية والوظائف الشرعيّة العمليّة وتحمل مسؤولياتها .
و كان أهل بيت رسول الله ( ص ) أكثر الناس إهتماماً بأداء هذه الوظيفة الشرعيّة و الإنسانية ، حتي انتشرت حلقات كثيرة لمدارسة الأحكام الشرعيّة بالمعنى الأعم في عصرهم وعلى أيديهم .
وبلغت هذه الحلقات والمدارس ذروتها من حيث المحتوى والمضمون العلمي في زمن الإمامين محمد الباقر وجعفر الصادق عليهما السلام ، وهكذا استمرت بعد زمان الأئمة عليهم السلام على مر العصور إلى زماننا هذا .
ويجدر الإشارة إلى أنّ دراسة العلم على طريقة الإجتهاد المتبعة في الحوزات الشيعية قد تأسّست في القرن الرابع الهجري في مدينة قم وريّ على يد علماء أفذاذ منهم ، الشيخ الصدوق ووالده ، و الشيخ الكليني ( قدس الله أسرارهم ) حتى انتقلت في القرن الخامس الهجري إلى بغداد ، حيث كان فيها حضور ألمع فقهاء المدرسة الشيعية ، كالشيخ المفيد ، والسيد المرتضى ، والشيخ الطوسي ( قدهم ) . ومن ثم إنتقلت إلى النجف الأشرف بعد أن هاجر إليها الشيخ الطوسي ( سنة 444 هـ ـــ 1027 م ) ، وأسّس الحوزة العلمية العتيدة فيها فكانت ولحد الآن من أهم المراكز العلميّة والإشعاعات الفكرية على صعيد العلوم الإسلاميّة والشيعيّة .
وكانت هناك حوزات علميّة قد تأسّست في مدن أخرى في العراق ، كالحلة وكربلاء وسامرّاء ، وغيرها ، واستمرت لفترة .
وتعتبر الحوزة العلميّة في النجف الأشرف من أكثر الجامعات الإسلاميّة غنىً وسابقة ، حيث حافظت على نشاطها العلمي في أعلى المستويات في هذه الفترة الطويلة من تاريخها المشرق وتستطيع أن تفخر بحرّية التعليم ، والعمق العلمي ، وتطبّع شخصيّة منتسبيها بطابعها المتميّز ، حيث لايخضع نظام التعليم فيها لنفوذ الدولة ، ولايموّل من قبلها ، ولاهيئة من خارج الحوزة تسيطر عليها ، أو تقوم بإدارتها ، وأنما يستطيع أيّ فرد مهما كان عمره ، أو مستواه الثقافي أن ينضم ّ إليها، حيث لا قانون يديرها ، أو ينظّمها غير الوازع الديني ، والإنضباط النفسي . . وهذا ما لا نجده في الجامعات الحديثة .
المبحث الأوّل ــ المناهج الدراسيّة
من البديهي أن المناهج الدراسيّة في جميع العلوم ركن أساسي في تطورها . وهي تتغيّر نوعاً ما بتغيّر الأزمنة ، والأمكنة , وتطوِّر العلوم وتكاملها .
وكذلك الكتب الحوزويّة حيث لها الأهميّة الكبرى في سير الدراسة في الحوزات العلميّة الدينيّة ، ونظم أمرها وارتفاع مستواها ، ويمكن تقسيم مناهج الحوزة إلى ثلاث مراحل :
1ــ مرحلة المقدّمات ، وهي بمثابة المرحلة المتوسطة والثانويّة في الأنظمة التربويّة الحديثة .
2 ــ مرحلة السطوح ، وهي بمثابة مرحلة المعاهد والجامعات .
3 ــ مرحلة البحث الخارج ، وهي بمنزلة مراحل الدراسات العالية .
المرحلة الأولى ــ فيدرس الطالب الحوزوي فيها المناهج التالية :
العلوم العربيّة ( النحو والصرف والبلاغة ) ، والمنطق , والأخلاق ، والتاريخ ، وعلوم القرآن ، ومختصر علم الأصول ، والفقه غير الإستدلالي المتمثّل بالرسالة العمليّة التي هي كتاب فتوائي لأحد المراجع العظام مع كتاب فقهي لأحد العلماء السّابقين ( كالشرائع ) المشتمل على قدر بسيط من الإستدلال .
المرحلة الثانيّة ــ فيقوم الطالب بدراسة بعض المناهج الجديدة ، كعلم الرّجال ، والحديث ، والكلام ، والفلسفة مع تكميل بعض ما تقدم من المناهج في المرحلة السّابقة ، كعلم الأصول ، وعلم الفقه مع اشتمال كتب العلمين الأخيرين للإستدلال الأعمق في هذه المرحلة .
المرحلة الثالثة ــ مرحلة البحث الخارج ، ونقصد منه المحاضرات التي يعدّها فقيه كبير ، ويلقيها على مسامع الطلبة الذين اجتازوا المرحلتين السابقتين بنجاح ، وتفوق حيث يعرض من خلالها رأيه في المسألة الفقهيّة ، أو الأصوليّة ، أو العقائديّة ، أو التفسيريّة . . .
وبعد هذا العرض السريع لمناهج التدريس في الحوزة ، لابدّ من الإشارة إلى نكتة مهمّة ، وهي : أنه منذ تأسيس الحوزات العلميّة ولحد الآن لم يكن هناك كتاب درسي معيّن يدرّس على مرّ العصور ، فهناك كتب دراسية خصوصاً في المرحلة الأولى قد تجدّدت مرّات عديدة إلى حيث الكتاب الأفضل تنظيماً وطرحاً ومحتوىً .
نعم ، هناك كتب قد سلمت من التغيير لفترة طويلة إما لجودة تنظيم أبوابها ، أو لرصانة محتواها ، أو سهولة أسلوبها وطرحها ، أو لعدم ظهور كتب بمستواها . وهذا أمر يلاحظه طالب العلم الحوزوي ، وبعض أهل الإختصاص من العلوم الأخرى كبعض طلبة الجامعات ، فيطالبون بالتجديد والتحديث فيها .
كما أن المجال مفتوح للعلماء بتأليف كتاب درسي في شتى المجالات ، ولكن قد لايجد نصيباً للقبول من قبل أساتذة الحوزة وطلبتها ، وقد تكون هناك أمور معنويّة وراء تقبل الحوزة لبعض الكتب الدراسيّة ، ففي النتيجة تعّين كتاب للمنهج ليس بفرض فارض في الحوزات العامّة بل الكتاب الجيّد من حيث التنظيم والطرح والمحتوى ، وقدسيّة المؤلف هو الذي يشقّ طريقه إلى حيث القبول والرضا كمنهج للدرس .
المبحث الثاني ــ منهجية التدريس في الحوزات العلميّة
الإطلاع على طريقة التدريس في الحوزة العلميّة على حقيقتها يتوقف على معرفة أمور :
1ــ معرفة الرسالة التي تحملها الحوزات العلميّة في أعناقها ، من أمانة سماويّة ، وقد أقامها الله تعالى حارساً و مناصراً و مدافعاً عن هذه الأمانة التي هي دين الحقّ ، والمتمثّل بشريعة سيّد المرسلين ( ص ) والتي هي إمتداد لسائر الشرائع السماويّة ، وخاتمتها .
وطالب العلم في الحوزة إذا أراد التوفيق لابدّ أن يدخلها بهذا القصد الشريف والوازع الديني .
2ــ الغاية الأسمى و الهدف الأهم من الدراسات الحوزويّة ، هو التفقّه في الدين ، و الوصول إلى أعلى درجات الإجتهاد و الإستنباط ، والوقوف على أظهر و أصدق معاني الأحاديث المشتملة على أصول العقائد ، و الأحكام الشرعيّة ، و الأخلاق والآداب ، والسلوك الفردي والإجتماعي ، و الحصول على أصحّ التفاسير للآيات القرآنية خصوصاً المتعلّقة بالعقائد والعبادات والمعاملات وغيرها مع الإطلاع على الأحكام الشرعيّة في منطتقة الفراغ التي تكون للمجتهد ساحة لإظهار رأيه .
3ــ إنّ كيفية الدراسة في الحوزات العلميّة خصوصاً حوزة النجف الأشرف العريقة ، لاتجري وفق نظام معيّن كالمدارس ، والمعاهد الحديثة ، حيث المنهج المكتوب . والتقسيم إلى مراحل وأجزاء واضحة ، وأوقات ثابتة ، وأساتذة معيّنين ، بل الطالب يختار الكتاب ، والمكان ، والزمان المناسب ، وله إختيار الأستاذ المناسب متى شاء و أراد . . .
ثمّ إنّ الكيفية المتبعة في التدريس في الحوزات العلميّة بصورة عامة واحدة ، وإن اختلفت بعض الشيْ في زماننا الحالي في بعض الحوزات ، أو المؤسّسات التابعة لها.
وقد ذكرنا أنها لاتعتمد على أساس نظام الصفوف ، بل تمارس على شكل حلقات في المدارس ، أو المساجد ، أو الحسينيات ، او البيوت كما كانت في عهد الأئمة الأطهار ( ع ) ، وعهد الشيخين المفيد والطوسي ( قدهما ) .
ولايوجد هناك نظام للإمتحانات الشهرية ، أو الفصليّة ، أو السنويّة ، ولا لمنح الشهادات كالمتعارف في المدارس ، والجامعات الحديثة . بل يترك للطالب اختيار الكتاب و الأستاذ ، والمكان والزمان حسب الإتفاق مع الأستاذ ، ويقع الكلام هنا في عدة محاور :
المحور الأول : النشاط الفقهي
لايخفى أنّ النشاط الفقهي ، هو المحور الأساسي في الدروس الحوزويّة ، وعليه تدور رحى الحوزات العلميّة ، والنشاطات العلميّة الأخرى ، فهي تمارس لأجل الوصول إلى إستنباط الأحكام الشرعيّة بصورة أدق ، و أعمق .
و نذكر طرق التدريس الفقهي في المراحل الدراسيّ الثلاث .
مرحلة المقدمات والسطوح
إليكم بعض الطرق التدريسيّة المتبعة فعلاً في الحوزات العلمية :
الطريقة الأولى ــ وهي الطريقة التقليديّة ، وتتمثل في قيام الأستاذ بشرح المادة التي يتناوله للدرس لذلك اليوم من الكتاب على نحو التقرير بتوضيح المصطلحات المستعملة ثم بيان المطالب الموجودة عن ظهر قلب وإيراد الأسئلة المناسبة لها ، والإجابة عن إستفسارات الطلبة لو وجدت ، ثم القيام بتطبيق ما قرّره على متن الكتاب . والإشارة إلى المطالب والنكات المذكورة ، وهذا يستغرق مدّة ساعة ، أو أقل .
الطريقة الثانيّة ــ وهي نفس الطريقة الأولى . ولكن يقوم الأستاذ بتقطيع البحث إلى عدة مقاطع فيتناول مقطعاً ويشرحه ، ويوضّحه إلى الطلبة وهكذا، ويكون التطبيق بعد الشرح أيضاً مقطعيّاً ، وهذه الطريقة تستعمل مع الطلبة الذين يقل استيعابهم للمادة ، حتى لايختلط عليهم المباحث .
وفي كلتا الطريقتين ، يقوم بعض الطلبة بكتابة شرح وتقرير الأستاذ حين الدرس .
الطريقة الثالثة ـــ هي نفس الطريقة السّابقة . ولكن الأستاذ يتّفق مع الطالب ، بأن يقرأ الطالب المتن بعد شرح الأستاذ ويطبّق ما ذكره الأستاذ من المطالب والنكات على المتن ، ويكون التطبيق في كل يوم على عهدة طالب من الطلبة .
وهذه الطريقة تسلك عادةً في الدروس الخصوصيّة مع الطلبة الأذكياء ، والموهوبين الذين يعتنى بهم الأستاذ أكثر ، وغالباً لايتعدّي الحضور عدد أصابع اليد.
وعلى الطالب في هذه الطرق المطالعة قبل الحضور لإستيعاب المطالب.
الطريقة الرابعة ، أن يقوم الأستاذ بعد تقرير الدرس وتطبيقه على المتن طرح بعض الأسئلة على الطلبة لمعرفة مقدار إستيعاب كل طالب ، وحثّه على المراجعة والتحقيق ، وبدونه قد يعتذر له الأستاذ عن الإستمرار في حضور درسه ، ليجد بعد ذلك حلقةً أخرى تناسب مستوى إستيعابه و فهمه .
نعم ، منع الطالب من الحضور نادر جدّاً .
ثمّ إنّ بعض الأساتذة يقوم بكتابة بعض الأسئلة المرتبطة بالبحوث السّابقة , ويطلب من الطلبة بالإجابة عليها تارة على نحو الكتابة بعد الدرس ، أو في البيت ، وهذا غالباً يكون في آخر الأسبوع . ليطّلع الأستاذ على مهارات طلبته ، واستعدادهم و مقدار إستيعابهم .
وقد يتفق أن يجعل الأستاذ إختباراً تقريرياً لطلبته بعد شهر ، أو أكثر ، أو يطلب منهم كتابة بحث مختصر عما استفادوه من درس الأستاذ ، وهذا غالباً يكون في المرحلة الثانية .
ويجدر الأشارة إلى أمور :
1 ــ إنّ مداخلات الطلبة بالإستفسار ، أو الإشكال ، أو إبداء الرأي ، مع الأستاذ يكون بعد الإتنهاء من الدرس ، ولكن قد يتفق ذلك أحياناً حين الدرس لضرورة . . .
2ــ إنّ دروس بعض الأساتذة قد يستمر لمدة ساعتين أحياناً ، وهذا غالباً في الدروس الخاصة ، ونقصد بالدروس الخاصة تلك الدروس التي لايسمح لأيّ طالب بالحضور فيها ، بل يختصّ الدرس بالطالب المتفوق ، والموهوب الذي يريد الأستاذ الإعتناء به أكثر ، وتنمية مواهبه وقدراته ، وتربيته تربية خاصة . . .
3ــ إنّ الطالب الموهوب قد لاينتظر الأستاذ ليكمّل عنده المنهج لمدة سنة أو أكثر ، بل يستغلّ أوقات الفراغ ، أو أيام العطلة ليكمّل جزءًا آخر من المنهج مع أستاذ آخر مناسباً له .
لذا نرى بعض الموهوبين يقطعون شوطاً كبيراً بينما أقرانه بعد في أول الطريق .
كما أن بعض الطلبة يكرّرون حضور درس الكتاب الواحد عند أكثر من أستاذ ليستوعب المادة أكثر . . .
4 ــ هناك طريقة أخرى متّبعة في هاتين المرحلتين لإستيعاب ما ذكره الأستاذ ، وفهم مطالب الكتاب . وهي المباحثة الإثنينية بين طالبين ، أو أكثر . ففي كل يوم يقوم طالب منهم باستحضار وإعادة ما ذكره الأستاذ ومدارسته ومناقشته فيما بينهم ليزيدهم قوةً في فهم الدرس وحفظه . . . ويعرضون على الأستاذ في اليوم التالي ما صعب عليهم فهمه ، واستيعابه ، لتوضيحه إليهم .
أما مرحلة البحث الخارج
سميّت هذه المرحلة بالبحث الخارج نظراً إلى كون الدراسة فيها تتمّ خارج نطاق متون الكتب الفقهيّة التي يعتمدها الأستاذ في تحضير مادته ، من غير أن يتقيّد الأستاذ بمصدر علميّ خاص .
ففي هذه المرحلة تقع المسؤوليّة على عاتق الطالب نفسه من حيث التحضير و الإعداد لمادّة المحاضرة التي يتوسّع الأستاذ فيها لمناقشة الآراء و الأفكار المطروحة في المسألة ــ فيستخلص الطالب لنفسه ما يمكن أن يصلح دليلاً لمناقشة الأستاذ في مادّة البحث . . .
هذه الحلقات الدراسيّة يقوم برعايتها كبار علماء الحوزة العلميّة و مراجعها . و هناك من يقوم بمحاضرة واحدة في الفقه وقد يقوم الأستاذ المجتهد بتصدّي محاضرتين فقهيّتين في اليوم الواحد بالإضافة إلى المحاضرة الأصوليّة ، أو التفسيريّة .
و الطرق المتبعة في التدريس لهذه المرحلة هي :
1 ــ الطريقة التقليديّة ، وهي أن يعرض الأستاذ مادة البحث عرضاً شاملاً مع أهم آراء علماء الشيعة الإماميّة ، والمذاهب الإسلاميّة الأخرى مع بيان دليل كل صاحب رأي ، ليناقش كل واحد من تلكم الآراء فيفنّدها بالدليل العلميّ أو يثبتها كذلك ، حتى يصل بالدليل إلى الرأي الخاصّ من تلك الآراء في المسألة مع التقليم أحياناً و التطعيم أخرى ــ ثمّ يقوم بدفع ما يحتمل إيراده على مختاره الذي اعتمده في المسألة الفقهيّة بالدليل العلميّ ثم يستقرّ على ذلك الرأي . . .
وهنا يأتي دور الطالب لإبداء بعض المناقشات مع الأستاذ أثناء الدرس أحياناً ، وبعد الدرس غالباً . وقد يتّفق أنِّ الأستاذ يغيّر رأيه عندما يرى قوّة حجّة الطالب فينزل عند آراء الطلاب .
نعم ، نقل عن سيد أساتذتنا آية الله العظمى السيد أبي القاسم الخوئي ( قدس الله نفسه الزكية ) عدم رضاه بالإشكال ، أو السؤال حين الدرس ، و كان يقول أن الإشكال يبعثر الدرس و يشتّت أذهان الطلبة ، فمن كان لديه إشكال ، او مناقشة فلينتظر بعد الدرس فكان يجلس في مكانه ويأتي الطلاب ويعرضون عليه مناقشاتهم بصورة كتبية ، أو شفوية ، ويتلقون جوابهم .
2 ــ الطريقة الثانيّة ، ما ينقل عن السيد الميرزا محمد حسن الشيرازي ( قده ) ، أنه قد انفرد بأسلوبه الخاص ، فكان لايستعمل في طرح ما عنده من دقائق المطالب ، وإنما كان يستثير أفكار طلابه من خلال عرضه لموضوع البحث ، واستدراجهم بالأسئلة ، ثم ينتظر الجواب منهم ــ كلٌ حسب إستعداده ــ حتى إذا اجتمعت الأجوبة ــ بدأ بجمع أطراف البحث ، وتنظيمه وتحقيقه .
وهنا كان دور التلميذ دوراً فاعلاً لا منفعلاً ، وكان الطلاب يشعرون بالحيويّة و النشاط والثقة بالنفس ، والإجلال والإكبار من أستاذهم .
وهذه الطريقة متبعة الآن في مجالس إستفتاء المراجع التي تنعقد في مكاتبهم ، ويجتمع فيها بعض الأفاضل من طلبة الحوزة العلمية الذي يقع عليه الإختيار ، فيتداولون أطراف البحوث العلمية للوصول إلى الجواب ثم عرضه على المرجع .
وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ الطالب في البحث الخارج الفقهي ، غالباً يقرّر محاضرات الأستاذ لغرض جمعها وتهذيبها ، ثم توجيه بعض المناقشات عليها ثم عرضها بعنوان بحث فقهي ، على الأستاذ ، والإستئذان منه لطبعه لزيادة الفائدة ، فإذا وجد الأستاذ إستيعاب الطالب للدّرس وتقريره بشكل مناسب ، يشجِّعه الأستاذ على الطبع والتكثير ، وقد يكتب الأستاذ تقريضاً على تقريراته تحفيزاً له للمضيّ قدماً نحو التحقيق أكثر .
وقد يقتصر الأستاذ في بحوثه على تقريرات طلاّبه من دون أن يقوم بنفسه بطبع بحوثه وتقريراته . وقد يعمد بعض الأساتذة الفقهاء بكتابة بحوثه وتقريراته بنفسه ، وطبعها بإسمه .
المحور الثاني : النشاط الأصولي
إذا كان الفقه هو المادة الرئيسيّة للدرس الحوزيّ ، فإن ( علم أصول الفقه ) يظل الأداة التي يتوكأ عليها الفقيه ويعتمده في إستنباط الحكم الشرعي ، لذلك فإن الإهتمام بعلم الأصول يظل ثابتاً و مستمراً باستمرار النشاط الفقهي .
ولايخفى أنّ علم الأصول قد وضع لممارسة تكوين النظريات العامّة و تحديد القواعد المشتركة للنشاط الفقهي التطبيقي ، وهو علم واضح المعالم و مستقل عن علميّ الفقه و الكلام ، ويرتبط بعلم الفقه بترابط وثيق على مدى العصور و يتطوّر تبعاً لتطوّر البحث الفقهي و اتساعه في مختلف المجالات .
و بموازاة النشاط الفقهي تدرّس كتب أصوليّة على طبق المستويات المذكورة في الفقه ، من حيث التدرّج من كتاب أصولي بسيط ، حتى الوصول إلى مباحث أصوليّة عميقة ، ثم بلوغ البحث الخارج الأصولي ليتسنّى للمجتهد بعد ممارسات دقيقة و مناقشات مضنيّة أن يختار رأياً في المسألة الأصوليّة لأجل تطبيقه على المسألة الفقهيّة، فإن نسبة علم الأصول إلى علم الفقه كنسبة العلم النظري إلى العلم التطبيقي. و من هنا فإن المنهجيّة المتّبعة في النشاط الأصوليّ بمراحلها الثلاثة نفس ما يتبع في النشاط الفقهي من دون فرق يذكر . . .
والجدير بالذكر أن ما وصلت إليه الحوزات الشيعيّة من التطوّر و التكامل في علم الأصول ، لم يبلغ إليه سائر المذاهب الإسلاميّة .
و نشير هنا إلى بعض طرق التدريس الأصولي لمرحلة البحث الخارج في الحوزة العلميّة في النجف ، لبعض فطاحل علمائها :
الأوّل : طريقة الإمام الخوئي ( قده ) ، لما كان مباحث علم الأصول قد أخذت طابعاً فلسفيّاً في عصر الآخوند و تلامذته ( قدهم ) ، قام السيّد الخوئي ( قده ) زعيم الحوزة العلميّة في تدريسه بتهذيب المباحث الأصوليّة و تجريدها عن البحوث الفلسفيّة و علم الكلام . وكانت طريقة إستدلاله في الفقه و الأصول من قنوات القياس الأرسطى بأشكاله المعروفة ، ولايتعدّاها إلى الفلسفة و المعقول ، وكان يمتاز ( قده ) بمنهج علميّ متميّز ، و أسلوب خاص به في البحث و التدريس ، و يشهد لذلك حضور إعداد كبيرة من طلبة الحوزة العلميّة و الأساتذة اللامعين من مختلف بلدان العالم عنده . و قد جاوزت فترة تدريسه السبعين عاماً ، و لشدّة وضوح بيانه وسلاسته كان يوصل الفكرة إلى أذهان تلامذته بصورة واضحة و دقيقة ــ وقد اتجه هذا الإتجاه في تدريسه و بحوثه أستاذنا المعظّم سماحة آية الله العظمى الشيخ الفياض ( دام ظله ) ، حيث هو الآن الأستاذ الأوّل للبحث الخارج الفقهي و الأصولي في النجف الأشرف ، ويحضر بحوثه ثلّة من فضلاء الحوزة العلميّة من مختلف البلدان .
الثاني : طريقة السيّد محمد باقر الصّدر ( قده ) ، كان للسيّد الشهيد ( قده ) منهجيّة فنيّة فريدة في التدريس و البحث ، وقد تبلورت بشكل خاص في بحوثه الأصوليّة ، و بشكل عام في سائر بحوثه الفقهيّة و المعرفيّة الأخرى . . .
و لقدرته الفائقة على منهجة البحوث و تنسيقها المتماسك كان يفرز الجهات المتشابكة في كلمات الأصوليين ولاسيّما في المسائل المعقّدة ، فكان يوضح الفكرة و ينظّمها بشكل موضوعي ، لايجد الباحث المختص نظيره ــ كما كان يميّز طريقة الإستدلال في كل موضوع ، وهل أنها لابدّ أن تعتمد البرهان ، أو أنها تعتمد الإستقراء ، أو الوجدان ؟ ولم يقتصر على دعوى وجدانية المدّعى المطلوب إثباته ، بل كان يستعين بالمنبّهات اللازمة لإثارة هذا الوجدان و إيصال الفكرة إلى ذهن الطالب .
و كان يتعرض في كل مسألة إلى جذورها الواقعية ، و إلفات النظر إلى موقعها الطبيعي بالنسبة إلى سائر البحوث و الأهداف المقصودة ، والنتائج المرجوّة من البحث .
و يجدر الإشارة أنه ( قده ) أدخل عنصراً جديداّ في إستدلال الشرعي في البحث الأصولي و الفقهي و غيرهما ، يعتمد على حساب الإحتمالات ، و يعتبر إستخدام حساب الإحتمالات لأول مرّة بهذا الشكل في هذه المباحث و في موارد مختلفة من إبداعات الشهيد الصّدر ( قده ) . و كان بحق رائد المعارف الحوزويّة خصوصاً في علمي الفقه و الأصول .
المحور الثالث : النشاط العقائدي و الفلسفي وغيرهما
البحث في العقائد الإسلاميّة و الإستدلال عليها ظهرت منذ بداية الوحي وظهور الدعوة الإسلاميّة ، حيث بدأ النبيّ ( ص ) ينقض شكوك المشركين و المخالفين بحجج دامغة ، كما يحكي لنا القرآن الكريم ذلك .
وعلى هذا يكون البحث الإستدلالي في العقائد الإسلاميّة قد نشأ من القرآن و أحاديث الرسول ( ص ) ، وخطب أمير المؤمنين ( ع ) ، والروايات الواردة عن أئمة أهل البيت ( ع ) تعقيباً لأحاديث الرسول و تفسيراً للقرآن . . .
كما أنّ التفكير الفلسفي لدى الشيعة الإمامية ولد في أحضان القرآن و الحديث ، ونهج البلاغة . فالرافد الذي غذّى الفلسفة و الكلام عند الشيعة الإماميّة واحد .
بدأ النشاط العقائدي واالفلسفي في مدرسة النجف الأشرف منذ زمن الشيخ الطوسي ، حيث إنفتح على التدريس و التأليف في علم الكلام و مختلف حقول المعقول الإسلامي . و هو ما نراه في آثاره الكلاميّة و اعتماده أدوات المنطق و آليات البحث الفلسفي في مؤلفاته الأصوليّة و الفقهيّة ، و استمر و تطوّر إلىزماننا هذا .
و كانت و لاتزال هناك أساتذة مختصّون بالعقائد و الفلسفة يتناولون في دروسهم و بحوثهم عقائد الأديان السماويّة ــ كالمسيحيّة و اليهوديّة ــ وغير السماويّة و سبل مناقشاتها ، وكذلك عقائد المذاهب الإسلاميّة الأخرى بطريقة التحليل و النقد بأسلوب حضاري من حيث عرض الآراء و مناقشتها و بيان الإشكال فيها ــ و من ثم معالجتها و بيان ضعف إستدلالهم ، وكذلك يطرحون آراء المذاهب الفلسفيّة كالمادية الديالكتيكيّة الماركسيّة و غيرها , و استدلالاتهم ثم مناقشتها بالدفاع المنطفي الدقيق عن الفلسفة الإلهيّة و نسف الأسس الفلسفيّة للإلحاد.
و المتعارف في الحوزات العلميّة أنها تدرّس في مرحلة السطوح و طريقة التدريس واحدة من حيث كيفية التقرير و التطبيق و الزمان .
و أما النشاطات العلميّة الأخرى ، و هي التي تكون في مجال التفسير و الحديث ، و الرجال و الأخلاق ، وعلوم العربيّة ، والمنطق والتاريخ , و غيرها .
و ممّا تقدّم يظهر طريقة تناول هذه العلوم بالتدريس ، والبحث في جميع المراحل .
ملحوظة : تختص مرحلة البحث الخارج في الفقه و الأصول و العقائد و التفسير . دون غيرها من المناهج الدراسيّة ، والباقي يقتصر عليها في المرحلتين الأوليين .
الخـــــاتمـة
في الإشارة إلى بعض الإيجابيات و السلبيّات في طريقة التدريس في الحوزات العلميّة .
إنّ من أهم الفوارق بين التدريس في النظام الحوزوي و غيره من أنظمة التعليم الحديثة هو ، حريّة التدريس في نظام الحوزة ، و تحديد قابليات الأساتذة في الأنظمة الحديثة .
ولكن لهذه الدراسة الحرّة إيجابياتها و سلبياتها .
أما الإيجابيات :
1 ــ إنّ نظام التدريس الحوزوي تنمّى و تطوّر قابليات الأستاذ ــ فضلاً عن الطالب ــ فإن ألأستاذ لايكون ملزماً بتدريس منهج مقرّر خاص ، بل يقوم باستبدال الكتاب بالإتفاق مع الطلبة إذا لاحظ قلّة الإنتفاع به و الإفادة منه . و لذا بإمكانه و لفترة قصيرة التخصّص في أكثر من فرع .
ولكن الأمر يختلف في النظام الحديث ، فإن الأستاذ فيه قد يكرّر تدريس المادّة لعشرات المرّات من دون أن يطوّر نفسه ، وينمى قابلياته . نعم ، قد يحصل ذلك بالبحث و التحقيق خارج الدرس ــ وهو أمر قليل الوقوع خارجاً . . .
2 ـــ الحيويّة في التدريس ، من ضرورات التدريس توفّر الأستاذ على الحيويّة و النشاط أثناء التدريس ، فإن الدرس يفقد معطياته الإيجابية لولم يتحلّى الأستاذ بالحيويّة و النشاط .
إن المشاهد لدور المدرس في الحوزة يلمس فيه عنصر الحيويّة أكثر ممّا يلمسه في غيره ، و لذا ترى يُلقى محاضراته أحياناً بعد صلاة الصبح مباشرة ، و قبل طلوع الشمس بساعة ، وقد يكون درسه في ساعات متأخرة من الليل ــ و ليس ذلك إلاّ لحرية الأول في انتخاب المقرّر التدريسيّ ، وكون المادة التي يدرّسها أقرب إلى ذوقه و إرادته ــ بخلاف المدارس الحديثة التي تفرض فيها المادة على الأستاذ ــ ولذا قد يتّفق أن يدرّس مادةً لايُحسنها ولايستسيغها ، ولكنه لايرفضها حفاظاً على موقعه و وظيفته .
و أمّا السلبيات :
1 ــ عدم تكافؤ المستوى العلمي للحضور إذ تجد أنّ الطالب الذي أنهى مرحلة السطوح يحضر بحث الخارج مع أستاذه الذي سبقه لحضور البحث أكثر من خمس سنوات ، وهذا مالا نجده في المدارس الحديثة ، إذ جميع الطلبة الذين يحضرون درس الأستاذ سواسية في المستوى العلمي .
و حتى لو كان هناك طالب من السنة السابقة إلاّ أن مستواه مع الطالب الجديد واحد، ومعلوماته متساويّة تقريباً .
2 ـــ إزدحام بعض الدروس ، و هذا الأمر يمنع من الأستفادة الكافية من الأستاذ المحاضر ، حيث يقلّل فرص طرح الأسئلة و الإشكال على الأستاذ بخلاف النظام التعليمي الحديث .
و هناك إيجابيات و سلبيات أخرى طوينا عنها روماً للإختصار ، هذا
والحمد لله رب العالمين
محمد جواد المهدوي
14 / 4 / 2010 م
28 / ربيع الثاني / 1431 هـ
المصـــادر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ــ القرآن الكريم
2 ــ النظرة الخاطفة في الإجتهاد محمد إسحاق الفيّاض
3 ــ بحوث ( المراحل الدراسيّة في الحوزة ) ــــ أحد العلماء
4 ــ بحث ( أساليب الدراسة في الحوزات العلميّة ) محمد علي رضائي
5 ــ بحث ( النظام التعليمي بين الحوزة و الجامعة ) السيّد حسن فاطمي
6 ــ موسوعة النجف الأشرف جعفر الدجيلي
7 ــ التحقيق و الحوزة ( عدد خاص بحوزة النجف ) حوزة قم
8 ــ نبذة مختصرة عن حياة الشيخ الفياض السيّد عبد المجيد الخوئي
9 ــ الحوزة العلميّة ( نشوها / تطوّرها ) السيّد محمد باقر الحكيم